تقديم
في بداية السنوات التسعينية الماضية، تهيأت لي ظروف سمحت لي بالمساهمة في برامج التكوين الأساسي لزملائي الملحقين القضائيين بالمعهد الوطني للدراسات القضائية، ثم بالمعهد العالي للقضاء لاحقا.
وكانت مساهمتي هذه على مدى حوالي 18 سنة، احتكرتها مادة قانون المسطرة المدنية، التي كنت - بحكم طبيعة عملي - قريبا من قواعدها وتطبيقاتها، كما تبرزها القرارات القضائية بالمحاكم المغربية.
لا شك أن صياغة القواعد القانونية الموضوعية، تختلف اختلافا، عن صياغة القواعد الإجرائية، خاصة فيما يتعلق بعنصر المرونة والجمود فيهما، فإذا كانت القاعدة الموضوعية - تحتم على المشرع - أحيانا - إضفاء هامش من المرونة، يضيق أو يتسع، حسبما يستوجبه حكمها، فإن القاعدة الإجرائية . بطبيعتها - يكون القصد من وضعها تنظيم إجراء معين بحكم جامد، لا يحتمل تأويلاً. فيكون صعباً تطبيق قاعدة مسطرية بمفهوم مخالف لحكمها، لما يحمله هذا التطبيق - من رفض المضمونها، وابتعاد عن جوهرها، وعن حقيقة القصد الذي أريد منه.
هذا الواقع، لا ينفي إمكانية تطبيق القاعدة المسطرية، بصور مختلفة، دون أن يكون هناك تناقض، بل تكون كل صورة من هذه الصور المختلفة، تطبيقا سليما الحكم القاعدة، فحين نرى الفصول 32 و 142 و 355 مثلا تتحدث عن الموطن الحقيقي للأطراف، فإن عناصر هذا الموطن التي يجب بيانها - تحت طائلة عدم القبول - تختلف في المناطق الحضرية عنها في المناطق القروية. كما تختلف في هذه المنطقة وتلك، حسب الواقع الناتج عن التقسيم الإداري
وكذلك حين نرى هذه الفصول تتحدث عن بيان الأسماء الشخصية والعائلية، نرى أيضا عدداً هائلا من المقالات تشير إلى الاسم الشخصي وإسم الأب ثم إسم الجد دون إشارة لاسم عائلي. ومع ذلك لم يحدث - قط - أن قضي بعدم قبول دعوى أو طعن بسبب ذلك.
لذلك، أجدني في تناولي المواضيع هذا الكتاب، لا أنحصر في الشرحالنظري للقاعدة الإجرائية، وإنما أركز اهتمامي على كيفية تطبيقها، إما انطلاقا من مضمونها مرة، أو من حكم قضائي مرة أخرى، إذ لم تكن غايتي هي الإحاطة بكل ما ورد في قانون المسطرة المدنية من فصول، وعددها 528، وإنما غايتي هي تناول هذه النصوص من خلال تطبيقاتها القضائية، والتحقق من مدى تلاؤم هذا التطبيق مع جوهر القاعدة المسطرية، أو ابتعاده عنه.
بيد أن قواعد المسطرة المدنية، ليست كلها من نمط واحد. فالقاعدة المنظمة الشروط صحة التقاضي (الفصل الأول والقواعد المنظمة للأحكام وقابليتها للطعن، وكذا المنظمة لأجل الطعن وصحته الفصول 19 و 134 و 345 و 355 و 358 و 515 إلى غير ذلك). وهي قواعد جامدة تختلف مثلا عن الفصل 32 في حديثه عن المستندات المراد استعمالها في الدعوى، وما ينتج عن عدم إرفاقها بالمقال وتختلف كذلك عن الفصل 334 المتحدث عما يمكن الأمر به من إجراءات التحقيق ومجال السلطة في ذلك، الموكول للقاضي المقرر أو المحكمة...
لذلك، كان من المتعذر - في هذه الدراسة المختصرة - تتبع قواعد المسطرة في جزئياتها، ورأيت ألا أتناول - من العمل القضائي - إلا ما يسير في اتجاه مخالف القصد المشرع ولروح القاعدة القانونية، وإن شكل - في بعض الحالات - جزءاً فقط، من موضوع لم أعرض له في هذه الدراسة، كما هو الحال، بالنسبة لسلطة محكمة الدرجة الثانية إزاء استيناف الأمر بالأداء، (بنود 275 و 276 و 277).
لكن، ما يجب الانتباه إليه، هو عدم إهمال آثار الإجراء المسطري، أو تطبيقه الخاطئ على نتيجة الدعوى .. فالإجراء المسطري قلما يكون منفصلاً عن هذه
6
النتيجة، إذ هو مهيء لها ومؤثر فيها ومؤد إليها، وإن كان هذا الأثر، يكون قوياً في حالات، ويفتر في حالات أخرى.
فمثلا، حين يصدر الحكم بعدم قبول الدعوى، لكون المدعي لم يؤيد دعواه بمستند، اعتمادا على الفصل 32 نجد الفصل 32 لا يقرر ذلك - حتما - ولا يوجه
نحو هذه النتيجة.
وأيضا، في حالة وفاة المدعى عليه بعد عرض المقال الافتتاحي، أو وفاة المستأنف عليه بعدم تقديم مقال الاستيناف، فإن ما يجرى عمليا - وبشكل يكاد يكون عاماً وشاملاً - هو إنذار المدعي أو المستأنف، من أجل إصلاح المسطرة -هكذا ، بإدخال ورثة الطرف المتوفى. بينما هذا مخالف تماما، لإجراءات مواصلة الدعوى، كما تنظمها الفصول 115 وما يليه من ق.م.م.
من جهة أخرى، فقواعد المسطرة، لا تتحدث عن كون الطعون لا تقدم إلا مرة واحدة. ولا تتحدث عن عدم تضرر المستأنف من استينافه. ومع ذلك، فالقرارات القضائية، تتناول هذه المواضيع ومثيلاتها - وهي لا مناص لها من ذلك - ما دامت معروضة عليها، غير أن ما ينتهي إليه العمل القضائي بشأنها، يتعين التوقف عنده لتقييمه وإبراز إيجابياته، أو ما يقتضي المراجعة.
ففي مجال القضاء والممارسة القضائية، يبقى دائما التصور قائما بشأن مرونة القاضي في التعامل مع القاعدة القانونية والاجتهاد فيها من داخلها، بفهم أحكامها بصور مختلفة. إلا أنه بخصوص القاعدة الإجرائية، فهي بطبيعتها، لا تقبل التأويل والاجتهاد ولا مجال فيها، لتدخل العمل القضائي بشأنها، إلا لتفادي أثر ضار بالعدالة، أو ليضيف إليها حكماً أو حلاً لم يبرز من خلال مقتضياتها.
المؤلف في أبريل 2012
https://drive.google.com/file/d/1AOr25uDTbeYnktKZagSSBRTDOSmmfIBO/view?usp=drivesdk
أنظر جميع مقالات هذا الموضوع :
- رسالة ماستر بعنوان الطرق التمويلية للشركات التجارية
- النظام الجبائي العقاري وتاثيرة على وسائل الاثبات
- رسالة ماستر بعنوان المستجدات المتعلقة بالتقييد على الرسوم العقارية على ضوء القانون 14.07
- الاتفاق المالي وفق المادة 49 من مدونة الأسرة وعلاقته بالتحفيظ العقاري
- رسالة أزمة القواعد العامة للتعاقد في ظل إجراءات الوقاية والمعالجة من صعوبات المقاولة
أنظر جميع مقالات هذا الموضوع :
- التدبير العمومي المحلي وإشكالية التحديث أطروحة لنيل الدكتوراه
- أطروحة سلطة القاضي في الاثبات في المادة المدنية
- أطروحة التعرض في التحفيظ والمساطر الخاصة
- أطروحة القرار التنظيمي في القانون العام المغربي
- أطروحة اطروحة الحماية القانونية لديون الدولة الجبائية
- أطروحة دكتوراه بعنوان مشاركة المرأة في الحياة السياسية المغربية
أنظر جميع مقالات هذا الموضوع :
- بحت تخرج الملحقين القضائيين بعنوان جنح اهمال الاسرة بين القانون الجنائي ومدونة الاسرة 2015
- بحث تخرج الملحقين القضائيين بعنوان الطعن بالزور الفرعي بين النص القانوني و العمل القضائي
- بحث تخرج الملحقين القضائيين بعنوان القضاء والعدالة التعاقدية
- بحث تخرج الملحقين القضائيين بعنوان أحكام التعدد بين مدونة الأسرة و العمل القضائي
- بحث تخرج الملحقين القضائيين بعنوان إشكاليات الحمل خارج مؤسسة الزواج
- بحث تخرج الملحقين القضائيين بعنوان زواج المغاربة المقيمين بالخارج بين مدونة الأسرة والعمل القضائي